د. تـينا
في لحظة مفصلية من تاريخ الإقليم والعالم، ألقى جلالة الملك عبد الله الثاني خطابًا استثنائيًا أمام البرلمان الأوروبي في ستراسبورغ، لم يقتصر فيه على التنبيه إلى خطورة المرحلة، بل ارتقى بالخطاب السياسي إلى ما يشبه طقسًا رمزيًا يستنهض الضمير، ويعيد طرح الأسئلة الكبرى على أوروبا والعالم، لا سيما في ظل تدهور الأوضاع في غزة وتصاعد التوتر بين إسرائيل وإيران.
الطقس الملكي: حين تتحوّل الخطابة إلى فعل إنساني أخلاقي
:
خطاب الملك بدا وكأنه يتجاوز اللغة الدبلوماسية التقليدية إلى بيان إنساني أخلاقي نادر، يحمل في طياته تحذيرًا من انهيار القيم الغربية أمام مشاهد المجازر في غزة والانتهاكات المتكررة في الضفة الغربية. لم يكن الخطاب محاولة للضغط أو استمالة المواقف، بل إعلانًا واضحًا لمسؤولية أخلاقية وسياسية ملقاة على عاتق المجتمع الدولي، وتحديدًا أوروبا، التي طالما قدّمت نفسها حارسة للقانون الدولي وحقوق الإنسان.
وفي بنية رمزية عميقة استدعى جلالته التاريخ لتحكيم الضمير
فجاء الخطاب مؤسسًا على ثلاثية رمزية تربط الماضي بالحاضر، وتستنهض الضمير الأوروبي في لحظة يتهدده فيها التواطؤ أو الصمت.
ثلاثية الملك: حين يلتقي الماضي بالحاضر، ويوقظ الضمير:
لم يكن خطاب جلالة الملك عبد الله الثاني مجرد تدخل سياسي في لحظة إقليمية حرجة، بل كان مؤسسًا على ثلاثية رمزية عميقة، تعكس إدراكًا نادرًا لتداخل الزمان والموقف، وترتكز على:
الماضي الأوروبي بعد الحرب العالمية الثانية:
حيث أسّس الغرب نظامه الأخلاقي على أنقاض الخراب، فحذّر الملك من أن الصمت اليوم عن جرائم غزة يعيد اختبار أوروبا أمام مرآة التاريخ.
الواقع الفلسطيني ككارثة أخلاقية مستمرة:
فالقضية ليست فقط سياسية، بل سقوط أخلاقي تُقاس به جدية التزام الغرب بمفاهيم العدالة والكرامة وحقوق الإنسان.
الضمير العالمي في وجه الطوفان القادم:
مع دخول إيران في دائرة النار، تصبح الغطرسة الإسرائيلية محفزًا لا لحرب إقليمية فقط، بل لانهيار جديد في بنية الضمير العالمي إذا لم يُقابل بموقف حاسم.
أولًا: الضمير الأوروبي بعد الحرب العالمية الثانية
من دون تصريح مباشر، ذكّر الملك أوروبا بتاريخها القريب، حين نهضت من رماد الحرب العالمية الثانية على أساس منظومة من القيم والحقوق. لكن هذه القيم، كما أوحى الخطاب، توضع اليوم تحت الاختبار مجددًا. فالصمت عن الكارثة المستمرة في غزة لا يُعتبر موقفًا محايدًا، بل مشاركة ضمنية في تفكيك تلك المنظومة التي تأسست عليها أوروبا الحديثة.
ثانيًا: النكبة الفلسطينية كمرآة أخلاقية
حين تحدث الملك عن المأساة المتواصلة في غزة، والانتهاكات الممنهجة في الضفة الغربية، لم يطرحها بوصفها نزاعًا سياسيًا، بل وصفها بانهيار واضح لقيم العدالة والكرامة الإنسانية. لقد كشف الملك أن هذه المعاناة المستمرة ليست حدثًا عابرًا، بل لحظة فاصلة تعكس ما إذا كانت أوروبا لا تزال وفيّة لمبادئها، أم أنها انزلقت إلى حسابات المصالح والازدواجية.
ثالثًا: التوسع نحو إيران وتحوّل الصراع إلى طوفان:
في إشارة تحذيرية شديدة الوضوح، قال الملك:
“مع توسيع إسرائيل هجومها ليشمل إيران، لا يمكن معرفة أين ستنتهي حدود المعركة.”
بهذه الجملة، أعاد الملك رسم خريطة التهديدات، مشيرًا إلى أن العالم يقف على عتبة تصعيد لا يمكن احتواؤه، وأن التهاون مع الأزمة الفلسطينية لا يؤدي إلى إنهائها، بل إلى انفجارها على نطاق أوسع، تتداخل فيه الجغرافيا بالمصير.
دور الأردن ومكانته: من وسيط إلى صوت مرجعي:
أعاد الخطاب تثبيت مكانة الأردن كفاعل رئيسي في معادلة الاستقرار، ليس بوصفه طرفًا محايدًا، بل باعتباره قوة أخلاقية وسياسية ذات شرعية تاريخية وروحية.
الملك لم يقدّم بلاده كوسيط صامت، بل كصوت عاقل يحرس القيم، ويملك من المصداقية ما يؤهله لتأدية دور إقليمي متقدم. وقد أكّد في خطابه أنّ “الأردن يمكن الاعتماد عليه كشريك قوي”، في رسالة موجهة إلى أوروبا بأن الشراكة الحقيقية لا تُبنى فقط على المصالح، بل على القيم والمواقف.
إنذار دبلوماسي مغطّى بالحكمة:
في خطابه، أطلق الملك جرس إنذار دبلوماسي لأوروبا، مفاده أنّ التساهل مع الانتهاكات لا يضعف الفلسطينيين وحدهم، بل يهدد النظام الدولي بأسره. وأوحى أن تحالفات المصالح قصيرة الأمد مع إسرائيل قد تدفع العالم إلى مواجهة إقليمية مفتوحة تبدأ من غزة، وتمر بطهران، ولا يُعلم أين تنتهي.
وفي هذا السياق، بدت كلمات الملك أقرب إلى نبوءة سياسية مدروسة، تستبق الأحداث وتقرأ من تحت السطح، لا مجرد رد فعل على وقائع اللحظة.
الملك كنبيّ سلام في زمن الرماد:
في زمن يعلو فيه ضجيج السلاح على صوت الإنسان، جاء خطاب الملك عبد الله الثاني ليعيد ترتيب الأولويات، وليذكّر العالم بأن القيم لا تتجزأ، وأن العدالة ليست وجهة نظر.
الملك لم يراهن على العواطف، بل على الذاكرة الجماعية لأوروبا، مستحضرًا لحظة نجاتها من الخراب الأخلاقي بعد الحرب، ومحمّلاً إياها مسؤولية الوقوف مجددًا إلى جانب الحق، لا بالصمت، بل بالموقف.
لقد بدا الخطاب كأنه رسالة من نبيّ سلام لا يزال يؤمن بأن العالم قادر على الإنقاذ، إذا ما تحلّى بالشجاعة الكافية لقول “لا” للظلم، و”نعم” للإنسانية، ثم حيّ على السلام .